فصل: (الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ): (إِذَا غَابَ الْأَقْرَبُ هَلْ تَنْتَقِلُ الْوِلَايَةُ إِلَى الْأَبْعَدِ أَوْ إِلَى السُّلْطَانِ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بداية المجتهد ونهاية المقتصد (نسخة منقحة)



.الْمَوْضِعُ الثَّالِثُ فِي أَصْنَافِ الْأَوْلِيَاءِ وَتَرْتِيبِهِمْ فِي الْوِلَايَةِ:

وَأَمَّا أَصْنَافُ الْوِلَايَةِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهَا فَهِيَ: نَسَبٌ، وَسُلْطَانٌ، وَمَوْلَى أَعْلَى وَأَسْفَلَ، وَمُجَرَّدُ الْإِسْلَامِ عِنْدَ مَالِكٍ صِفَةٌ تَقْتَضِي الْوِلَايَةَ عَلَى الدَّنِيَّةِ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْوَصِيِّ: فَقَالَ مَالِكٌ: يَكُونُ الْوَصِيُّ وَلِيًّا، وَمَنَعَ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هَلْ صِفَةُ الْوِلَايَةِ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَنَابَ فِيهَا، أَمْ لَيْسَ يُمْكِنُ ذَلِكَ؟
وَلِهَذَا السَّبَبِ بِعَيْنِهِ اخْتَلَفُوا فِي الْوَكَالَةِ فِي النِّكَاحِ، لَكِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى جَوَازِهَا إِلَّا أَبَا ثَوْرٍ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْوَكَالَةِ وَالْإِيصَاءِ، لِأَنَّ الْوَصِيَّ وَكِيلٌ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْوَكَالَةَ تَنْقَطِعُ بِالْمَوْتِ. وَاخْتَلَفُوا فِي تَرْتِيبِ الْوِلَايَةِ مِنَ النَّسَبِ: فَعِنْدَ مَالِكٍ أَنَّ الْوِلَايَةَ مُعْتَبَرَةٌ بِالتَّعْصِيبِ إِلَّا الِابْنَ، فَمَنْ كَانَ أَقْرَبَ عَصَبَةً كَانَ أَحَقَّ بِالْوِلَايَةِ، وَالْأَبْنَاءُ عِنْدَهُ أَوْلَى وَإِنْ سَفَلُوا، ثُمَّ الْآبَاءُ، ثُمَّ الْإِخْوَةُ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ، ثُمَّ لِلْأَبِ، ثُمَّ بَنُو الْإِخْوَةِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ، ثُمَّ لِلْأَبِ فَقَطْ، ثُمَّ الْأَجْدَادُ لِلْأَبِ وَإِنْ عَلَوْا. وَقَالَ الْمُغِيرَةُ: الْجَدُّ وَأَبُوهُ أَوْلَى مِنَ الْأَخِ وَابْنِهِ لَيْسَ مِنْ أَصْلٍ، ثُمَّ الْعُمُومَةُ عَلَى تَرْتِيبِ الْإِخْوَةِ وَإِنْ سَفَلُوا، ثُمَّ الْمَوْلَى، ثُمَّ السُّلْطَانُ. وَالْمَوْلَى الْأَعْلَى عِنْدَهُ أَحَقُّ مِنَ الْأَسْفَلِ، وَالْوَصِيُّ عِنْدَهُ أَوْلَى مِنْ وَلِيِّ النَّسَبِ (أَعْنِي: وَصِيَّ الْأَبِ). وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِيمَنْ هُوَ أَوْلَى: وَصِيُّ الْأَبِ، أَوْ وَلِيُّ النَّسَبِ؟
فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: الْوَصِيُّ أَوْلَى، مِثْلَ قَوْلِ مَالِكٍ. وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ، وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: الْوَلِيُّ أَوْلَى. وَخَالَفَ الشَّافِعِيُّ مَالِكًا فِي وِلَايَةِ الْبُنُوَّةِ فَلَمْ يُجِزْهَا أَصْلًا، وَفِي تَقْدِيمِ الْإِخْوَةِ عَلَى الْجَدِّ، فَقَالَ: لَا وِلَايَةَ لِلِابْنِ. وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الْأَبَ أَوْلَى مِنَ الِابْنِ وَهُوَ أَحْسَنُ، وَقَالَ أَيْضًا: الْجَدُّ أَوْلَى مِنَ الْأَخِ، وَبِهِ قَالَ الْمُغِيرَةَ. وَالشَّافِعِيُّ اعْتَبَرَ التَّعْصِيبَ (أَعْنِي: أَنَّ الْوَلَدَ لَيْسَ مِنْ عَصَبَتِهَا) لِحَدِيثِ عُمَرَ: «لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ إِلَّا بِإِذْنِ وَلَيِّهَا، أَوْ ذِي الرَّأْيِ مِنْ أَهْلِهَا أَوِ السُّلْطَانِ» وَلَمْ يَعْتَبِرْهُ مَالِكٌ فِي الِابْنِ لِحَدِيثِ أَمِّ سَلَمَةَ: «أَنَّ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ ابْنَهَا أَنْ يُنْكِحَهَا إِيَّاهُ». وَلِأَنَّهُمُ اتَّفَقُوا (أَعْنِي: مَالِكًا وَالشَّافِعِيَّ) عَلَى أَنَّ الِابْنَ يَرِثُ الْوَلَاءَ الْوَاجِبَ لِلْأُمِّ، وَالْوَلَاءُ عِنْدَهُمْ لِلْعَصَبَةِ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي الْجَدِّ هُوَ اخْتِلَافُهُمْ فِيمَنْ هُوَ أَقْرَبُ هَلِ الْجَدُّ أَوِ الْأَخُ؟
وَيَتَعَلَّقُ بِالتَّرْتِيبِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ مَشْهُورَةٍ:
أَحَدُهَا: إِذَا زَوَّجَ الْأَبْعَدُ مَعَ حُضُورِ الْأَقْرَبِ.
وَالثَّانِيَةُ: إِذَا غَابَ الْأَقْرَبُ هَلْ تَنْتَقِلُ الْوِلَايَةُ إِلَى الْأَبْعَدِ أَوْ إِلَى السُّلْطَانِ؟
وَالثَّالِثَةُ: إِذَا غَابَ الْأَبُ عَنِ ابْنَتِهِ الْبِكْرِ هَلْ تَنْتَقِلُ الْوِلَايَةُ أَوْ لَا تَنْتَقِلُ؟

.[الْمَسْأَلَةُ الأُولَى]: [تَزْوِيجُ الْأَبْعَدِ مَعَ وُجُودِ الْأَقَارِبِ]:

فَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الأُولَى: فَاخْتَلَفَ فِيهَا قَوْلُ مَالِكٍ، فَمَرَّةً قَالَ: إِنْ زَوَّجَ الْأَبْعَدُ مَعَ حُضُورِ الْأَقْرَبِ فَالنِّكَاحُ مَفْسُوخٌ، وَمَرَّةً قَالَ: النِّكَاحُ جَائِزٌ، وَمَرَّةً قَالَ: لِلْأَقْرَبِ أَنْ يُجِيزَ أَوْ يَفْسَخَ، وَهَذَا الْخِلَافُ كُلُّهُ عِنْدَهُ فِيمَا عَدَا الْأَبِ فِي ابْنَتِهِ الْبِكْرِ، وَالْوَصِيِّ فِي مَحْجُورَتَهِ، فَإِنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ قَوْلُهُ إِنَّ النِّكَاحَ فِي هَذَيْنِ مَفْسُوخٌ، (أَعْنِي: تَزْوِيجَ غَيْرِ الْأَبِ الْبِنْتَ الْبِكْرَ مَعَ حُضُورِ الْأَبِ أَوْ غَيْرِ الْوَصِيِّ الْمَحْجُورَةَ مَعَ حُضُورِ الْوَصِيِّ). وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَعْقِدُ أَحَدٌ مَعَ حُضُورِ الْأَبِ لَا فِي بِكْرٍ وَلَا فِي ثَيِّبٍ. وَسَبَبُ هَذَا الِاخْتِلَافِ هُوَ: هَلِ التَّرْتِيبُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ (أَعْنِي: ثَابِتًا بِالشَّرْعِ فِي الْوِلَايَةِ)، أَمْ لَيْسَ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ؟
وَإِنْ كَانَ حُكْمًا فَهَلْ ذَلِكَ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ الْوَلِيِّ الْأَقْرَبِ، أَمْ ذَلِكَ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ؟
فَمَنْ لَمْ يَرَ التَّرْتِيبَ حُكْمًا شَرْعِيًّا قَالَ: يَجُوزُ نِكَاحُ الْأَبْعَدِ مَعَ حُضُورِ الْأَقْرَبِ. وَمَنْ رَأَى أَنَّهُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ وَرَأَى أَنَّهُ حَقٌّ لِلْوَلِيِّ، قَالَ: النِّكَاحُ مُنْعَقِدٌ، فَإِنْ أَجَازَهُ الْوَلِيُّ جَازَ، وَإِنْ لَمْ يُجِزْهُ انْفَسَخَ. وَمَنْ رَأَى أَنَّهُ حَقٌّ لِلَّهِ قَالَ: النِّكَاحُ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ، وَقَدْ أَنْكَرَ قَوْمٌ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْمَذْهَبِ (أَعَنَى: أَنْ يَكُونَ النِّكَاحُ مُنْفَسِخًا غَيْرَ مُنْعَقِدٍ).

.[الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ]: [إِذَا غَابَ الْأَقْرَبُ هَلْ تَنْتَقِلُ الْوِلَايَةُ إِلَى الْأَبْعَدِ أَوْ إِلَى السُّلْطَانِ]:

وأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فَإِنَّ مَالِكًا يَقُولُ: إِذَا غَابَ الْوَلِيُّ الْأَقْرَبُ انْتَقَلَتِ الْوِلَايَةُ إِلَى الْأَبْعَدِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تَنْتَقِلُ إِلَى السُّلْطَانِ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هَلِ الْغَيْبَةُ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ أَمْ لَا؟
وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا خِلَافَ عِنْدَهُمْ فِي انْتِقَالِهَا فِي الْمَوْتِ.

.[الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ]: [إِذَا غَابَ الْأَبُ عَنِ ابْنَتِهِ الْبِكْرِ هَلْ تَنْتَقِلُ الْوِلَايَةُ أَوْ لَا]:

وأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ (وَهِيَ غَيْبَةُ الْأَبِ عَنِ ابْنَتِهِ الْبِكْرِ): فَإِنَّ فِي الْمَذْهَبِ فِيهَا تَفْصِيلًا وَاخْتِلَافًا، وَذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى بُعْدِ الْمَكَانِ وَطُولِ الْغَيْبَةِ أَوْ قُرْبِهِ وَالْجَهْلِ بِمَكَانِهِ، أَوِ الْعِلْمِ بِهِ، وَحَاجَةِ الْبِنْتِ إِلَى النِّكَاحِ إِمَّا لِعَدَمِ النَّفَقَةِ، وَإِمَّا لِمَا يُخَافُ عَلَيْهَا مِنْ عَدَمِ الصَّوْنِ، وَإِمَّا لِلْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا. فَاتَّفَقَ الْمَذْهَبُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَتِ الْغَيْبَةُ بَعِيدَةً أَوْ كَانَ الْأَبُ مَجْهُولَ الْمَوْضِعِ أَوْ أَسِيرًا وَكَانَتْ فِي صَوْنٍ وَتَحْتَ نَفَقَةٍ أَنَّهَا إِنْ لَمْ تَدْعُ إِلَى التَّزْوِيجِ لَا تُزَوَّجَ، وَإِنْ دَعَتْ فَتُزَوَّجُ عِنْدَ الْأَسْرِ وَعِنْدَ الْجَهْلِ بِمَكَانِهِ. وَاخْتَلَفُوا هَلْ تُزَوَّجُ مَعَ الْعِلْمِ بِمَكَانِهِ أَمْ لَا إِذَا كَانَ بَعِيدًا، فَقِيلَ: تُزَوَّجُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. وَقِيلَ: لَا تُزَوَّجُ، وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَابْنِ وَهْبٍ.
وَأَمَّا إِنْ عُدِمَتِ النَّفَقَةَ أَوْ كَانَتْ فِي غَيْرِ صَوْنٍ فَإِنَّهَا تُزَوَّجُ أَيْضًا فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ (أَعْنِي: فِي الْغَيْبَةِ الْبَعِيدَةِ، وَفِي الْأَسْرِ، وَالْجَهْلِ بِمَكَانِهِ)، وَكَذَلِكَ إِنِ اجْتَمَعَ الْأَمْرَانِ، فَإِذَا كَانَتْ فِي غَيْرِ صَوْنٍ تُزَوَّجُ وَإِنْ لَمْ تَدْعُ إِلَى ذَلِكَ. وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِيمَا أَحْسَبُ أَنَّهَا لَا تُزَوَّجُ فِي الْغَيْبَةِ الْقَرِيبَةِ الْمَعْلُومَةِ لِمَكَانِ إِمْكَانِ مُخَاطَبَتِهِ، وَلَيْسَ يَبْعُدُ بِحَسَبِ النَّظَرِ الْمَصْلَحِيِّ الَّذِي انْبَنَى عَلَيْهِ هَذَا النَّظَرُ أَنْ يُقَالَ: إِنْ ضَاقَ الْوَقْتُ وَخَشِيَ السُّلْطَانُ عَلَيْهَا الْفَسَادَ زُوِّجَتْ وَإِنْ كَانَ الْمَوْضِعُ قَرِيبًا. وَإِذَا قُلْنَا: إِنَّهُ تَجُوزُ وِلَايَةُ الْأَبْعَدِ مَعَ حُضُورِ الْأَقْرَبِ، فَإِنْ جَعَلَتِ امْرَأَةٌ أَمْرَهَا إِلَى وَلِيَّيْنِ فَزَوَّجَهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ تَقَدَّمَ أَحَدُهُمَا فِي الْعَقْدِ عَلَى الْآخَرِ، أَوْ يَكُونَا عَقَدَا مَعًا، ثُمَّ لَا يَخْلُو ذَلِكَ مِنْ أَنْ يُعْلَمَ الْمُتَقَدِّمُ أَوْ لَا يُعْلَمُ: فَأَمَّا إِذَا عُلِمَ الْمُتَقَدِّمُ مِنْهُمَا فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهَا لِلْأَوَّلِ إِذَا لَمْ يَدْخُلْ بِهَا وَاحِدٌ مِنْهُمَا. وَاخْتَلَفُوا إِذَا دَخَلَ الثَّانِي، فَقَالَ قَوْمٌ: هِيَ لِلْأَوَّلِ، وَقَالَ قَوْمٌ هِيَ لِلثَّانِي، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَابْنِ الْقَاسِمِ، وَبِالْأَوَّلِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ.
وَأَمَّا إِنْ أَنْكَحَاهَا مَعًا فَلَا خِلَافَ فِي فَسْخِ النِّكَاحِ فِيمَا أَعْرِفُ. وَسَبَبُ الْخِلَافِ فِي اعْتِبَارِ الدُّخُولِ أَوْ لَا اعْتِبَارِهِ: مُعَارَضَةُ الْعُمُومِ لِلْقِيَاسِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَنْكَحَهَا وَلِيَّانِ فَهِيَ لِلْأَوَّلِ مِنْهُمَا». فَعُمُومُ هَذَا الْحَدِيثِ يَقْتَضِي أَنَّهَا لِلْأَوَّلِ دَخَلَ بِهَا الثَّانِي أَوْ لَمْ يَدْخُلْ. وَمَنِ اعْتَبَرَ الدُّخُولَ فَتَشْبِيهًا بِفَوَاتِ السِّلْعَةِ فِي الْبَيْعِ الْمَكْرُوهِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ.
وَأَمَّا إِنْ لَمْ يُعْلَمِ الْأَوَّلُ فَإِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى الْفَسْخِ. وَقَالَ مَالِكٌ: يُفْسَخُ مَا لَمْ يَدْخُلْ أَحَدُهُمَا. وَقَالَ شُرَيْحٌ: تُخَيَّرُ فَأَيَّهُمَا اخْتَارَتْ كَانَ هُوَ الزَّوْجَ، وَهُوَ شَاذٌّ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ.

.الْمَوْضِعُ الرَّابِعُ فِي عَضْلِ الْأَوْلِيَاءِ:

وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَعْضُلَ وَلِيَّتَهُ إِذَا دَعَتْ إِلَى كُفْءٍ، وَبِصَدَاقِ مِثْلِهَا، وَأَنَّهَا تَرْفَعُ أَمْرَهَا إِلَى السُّلْطَانِ فَيُزَوِّجُهَا، مَا عَدَا الْأَبَ فَإِنَّهُ اخْتَلَفَ فِيهِ الْمَذْهَبُ. وَاخْتَلَفُوا بَعْدَ هَذَا الِاتِّفَاقِ فِيمَا هِيَ الْكَفَاءَةُ الْمُعْتَبَرَةُ في النكاح فِي ذَلِكَ، وَهَلْ صَدَاقُ الْمِثْلِ مِنْهَا أَمْ لَا؟
وَكَذَلِكَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا مِنْ إِنْكَاحِ مَنْ لَهُ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ جَبْرُهَا إِذَا لَمْ تَكُنْ فِيهَا الْكَفَاءَةُ مَوْجُودَةً كَالْأَبِ فِي ابْنَتِهِ الْبِكْرِ. أَمَّا غَيْرُ الْبَالِغِ بِاتِّفَاقٍ، وَالْبَالِغُ وَالثَّيِّبُ الصَّغِيرَةُ بِاخْتِلَافٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَكَذَلِكَ الْوَصِيُّ فِي مَحْجُورِهِ عَلَى الْقَوْلِ بِالْجَبْرِ. فَأَمَّا الْكَفَاءَةُ: فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الدِّينَ مُعْتَبَرٌ فِي ذَلِكَ إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ مِنْ إِسْقَاطِ اعْتِبَارِ الدِّينِ، وَلَمْ يَخْتَلِفِ الْمَذْهَبُ أَنَّ الْبِكْرَ إِذَا زَوَّجَهَا الْأَبُ مِنْ شَارِبِ الْخَمْرِ - وَبِالْجُمْلَةِ مِنْ فَاسِقٍ - أَنَّ لَهَا أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا مِنَ النِّكَاحِ. وَيَنْظُرُ الْحَاكِمُ فِي ذَلِكَ فَيُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا، وَكَذَلِكَ إِنْ زَوَّجَهَا مِمَّنْ مَالُهُ حَرَامٌ، أَوْ مِمَّنْ هُوَ كَثِيرُ الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي النَّسَبِ: هَلْ هُوَ مِنَ الْكَفَاءَةِ أَمْ لَا؟
وَفِي الْحُرِّيَّةِ، وَفِي الْيَسَارِ، وَفِي الصِّحَّةِ مِنَ الْعُيُوبِ: فَالْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يَجُوزُ نِكَاحُ الْمَوَالِي مِنَ الْعَرَبِ، وَأَنَّهُ احْتَجَّ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}، وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَأَحْمَدُ: لَا تُزَوَّجُ الْعَرَبِيَّةُ مِنْ مَوْلًى. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ: لَا تُزَوَّجُ قُرَشِيَّةٌ إِلَّا مِنْ قُرَشِيٍّ، وَلَا عَرَبِيَّةٌ إِلَّا مِنْ عَرَبِيٍّ. وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: اخْتِلَافُهُمْ فِي مَفْهُومِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِدِينِهَا وَجِمَالِهَا وَمَالِهَا وَحَسَبِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَمِينُكَ»: فَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى أَنَّ الدِّينَ هُوَ الْمُعْتَبَرُ فَقَطْ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «فَعَلَيْكَ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَمِينُكَ». وَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى أَنَّ الْحَسَبَ فِي ذَلِكَ هُوَ بِمَعْنَى الدِّينِ، وَكَذَلِكَ الْمَالُ، وَأَنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا مَا أَخْرَجَهُ الْإِجْمَاعُ، وَهُوَ كَوْنُ الْحُسْنِ لَيْسَ مِنَ الْكَفَاءَةِ، وَكُلُّ مَنْ يَقُولُ بَرَدِّ النِّكَاحِ مِنَ الْعُيُوبِ يَجْعَلُ الصِّحَّةَ مِنْهَا مِنَ الْكَفَاءَةِ، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ الْحُسْنُ يُعْتَبَرُ لِجِهَةٍ مَا. وَلَمْ يَخْتَلِفِ الْمَذْهَبُ أَيْضًا أَنَّ الْفَقْرَ مِمَّا يُوجِبُ فَسْخَ إِنْكَاحِ الْأَبِ ابْنَتَهُ الْبِكْرَ (أَعْنِي: إِذَا كَانَ فَقِيرًا غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى النَّفَقَةِ عَلَيْهَا) فَالْمَالُ عِنْدَهُ مِنَ الْكَفَاءَةِ، وَلَمْ يَرَ ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ. أَمَّا الْحُرِّيَّةُ فَلَمْ يَخْتَلِفِ الْمَذْهَبُ أَنَّهَا مِنَ الْكَفَاءَةِ لِكَوْنِ السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ لِتَخْيِيرِ الْأَمَةِ إِذَا عُتِقَتْ.
وَأَمَّا مَهْرُ الْمِثْلِ فَإِنَّ مَالِكًا، وَالشَّافِعِيَّ يَرَيَانِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْكَفَاءَةِ، وَأَنَّ لِلْأَبِ أَنْ يُنْكِحَ ابْنَتَهُ بِأَقَلَّ مِنْ صَدَاقِ الْمِثْلِ (أَعْنِي: الْبِكْرَ)، وَأَنَّ الثَّيِّبَ الرَّشِيدَةَ إِذَا رَضِيَتْ بِهِ لَمْ يَكُنْ لِلْأَوْلِيَاءِ مَقَالٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مَهْرُ الْمِثْلِ مِنَ الْكَفَاءَةِ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: أَمَّا فِي الْأَبِ: فَلِاخْتِلَافِهِمْ هَلْ لَهُ أَنْ يَضَعَ مِنْ صَدَاقِ ابْنَتِهِ الْبِكْرِ شَيْئًا أَمْ لَا؟
وَأَمَّا فِي الثَّيِّبِ فَلِاخْتِلَافِهِمْ هَلْ تَرْتَفِعُ عَنْهَا الْوِلَايَةُ فِي مِقْدَارِ الصَّدَاقِ إِذَا كَانَتْ رَشِيدَةً كَمَا تَرْتَفِعُ فِي سَائِرِ تَصَرُّفَاتِهَا الْمَالِيَّةِ، أَمْ لَيْسَ تَرْتَفِعُ الْوِلَايَةُ عَنْ مِقْدَارِ الصَّدَاقِ إِذْ كَانَتْ لَا تَرْتَفِعُ عَنْهَا فِي التَّصَرُّفِ فِي النِّكَاحِ، وَالصَّدَاقُ مِنْ أَسْبَابِهِ، وَقَدْ كَانَ هَذَا الْقَوْلُ أَخْلَقَ بِمَنْ يَشْتَرِطُ الْوِلَايَةَ مِمَّنْ لَمْ يَشْتَرِطْهَا، لَكِنْ أَتَى الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ. وَيَتَعَلَّقُ بِأَحْكَامِ الْوِلَايَةِ مَسْأَلَةٌ مَشْهُورَةٌ وَهِيَ: هَلْ يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ أَنْ يُنْكِحَ وَلِيَّتَهُ مِنْ نَفْسِهِ أَمْ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ؟
فَمَنَعَ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ قِيَاسًا عَلَى الْحَاكِمِ وَالشَّاهِدِ (أَعْنِي: أَنَّهُ لَا يَحْكُمُ لِنَفْسِهِ، وَلَا يَشْهَدُ لِنَفْسِهِ)، وَأَجَازَ ذَلِكَ مَالِكٌ وَلَا أَعْلَمُ لَهُ حُجَّةً فِي ذَلِكَ إِلَّا مَا رُوِيَ مِنْ: «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تَزَوَّجَ أَمَّ سَلَمَةَ بِغَيْرِ وَلِيٍّ» لِأَنَّ ابْنَهَا كَانَ صَغِيرًا، وَمَا ثَبَتَ: «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَعْتَقَ صَفِيَّةَ، فَجَعَلَ صَدَاقَهَا عِتْقَهَا». وَالْأَصْلُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فِي أَنْكِحَةِ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهَا عَلَى الْخُصُوصِ حَتَّى يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى الْعُمُومِ لِكَثْرَةِ خُصُوصِيَّتِهِ فِي هَذَا الْمَعْنَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنْ تَرَدَّدَ قَوْلُهُ فِي الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ.

.الْفَصْلُ الثَّانِي فِي الشَّهَادَةِ:

وَاتَّفَقَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَمَالِكٌ عَلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ مِنْ شَرْطِ النِّكَاحِ. وَاخْتَلَفُوا هَلْ هِيَ شَرْطُ تَمَامٍ يُؤْمَرُ بِهِ عِنْدَ الدُّخُولِ، أَوْ شَرْطُ صِحَّةٍ يُؤْمَرُ بِهِ عِنْدَ الْعَقْدِ. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نِكَاحُ السِّرِّ. وَاخْتَلَفُوا إِذَا أَشْهَدَ شَاهِدَيْنِ وَوُصِّيَا بِالْكِتْمَانِ هَلْ هُوَ سِرٌّ في النكاح أَوْ لَيْسَ بِسِرٍّ؟
فَقَالَ مَالِكٌ: هُوَ سِرٌّ وَيُفْسَخُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ: لَيْسَ بِسِرٍّ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هَلِ الشَّهَادَةُ فِي ذَلِكَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، أَمْ إِنَّمَا الْمَقْصُودُ مِنْهَا سَدُّ ذَرِيعَةِ الِاخْتِلَافِ أَوِ الْإِنْكَارِ؟
فَمَنْ قَالَ: حُكْمٌ شَرْعِيٌّ قَالَ: هِيَ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ الصِّحَّةِ، وَمَنْ قَالَ: تَوَثُّقٌ، قَالَ: مِنْ شُرُوطِ التَّمَامِ. وَالْأَصْلُ فِي هَذَا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «لَا نِكَاحَ إِلَّا بِشَاهِدَيْ عَدْلٍ وَوَلِيٍّ مُرْشِدٍ» وَلَا مُخَالِفَ لَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ رَأَى هَذَا دَاخِلًا فِي بَابِ الْإِجْمَاعِ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا ذَكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَذَكَرَ أَنَّ فِي سَنَدِهِ مَجَاهِيلَ. وَأَبُو حَنِيفَةَ يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ عِنْدَهُ بِشَهَادَةِ فَاسِقَيْنِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ عِنْدَهُ بِالشَّهَادَةِ هُوَ الْإِعْلَانُ فَقَطْ. وَالشَّافِعِيُّ يَرَى أَنَّ الشَّهَادَةَ تَتَضَمَّنُ الْمَعْنَيَيْنِ (أَعْنِي: الْإِعْلَانَ وَالْقَبُولَ)، وَلِذَلِكَ اشْتَرَطَ فِيهَا الْعَدَالَةَ.
وَأَمَّا مَالِكٌ فَلَيْسَ تَتَضَمَّنُ عِنْدَهُ الْإِعْلَانَ إِذَا وُصِّيَ الشَّاهِدَانِ بِالْكِتْمَانِ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هَلْ مَا تَقَعُ فِيهِ الشَّهَادَةُ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ السِّرِّ أَمْ لَا؟
وَالْأَصْلُ فِي اشْتِرَاطِ الْإِعْلَانِ: قَوْلُ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَعْلِنُوا هَذَا النِّكَاحَ وَاضْرِبُوا عَلَيْهِ بِالدُّفُوفِ» خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَقَالَ عُمَرُ فِيهِ: هَذَا نِكَاحُ السِّرِّ، وَلَوْ تَقَدَّمْتُ فِيهِ لَرَجَمْتُ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَجَمَاعَةٌ: لَيْسَ الشُّهُودُ مِنْ شَرْطِ النِّكَاحِ، لَا شَرْطَ صِحَّةٍ وَلَا شَرْطَ تَمَامٍ، وَفَعَلَ ذَلِكَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ شَهَادَةٍ، ثُمَّ أَعْلَنَ بِالنِّكَاحِ.

.الْفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي الصَّدَاقِ:

وَالنَّظَرُ فِي الصَّدَاقِ فِي سِتَّةِ مَوَاضِعَ:
الْأَوَّلُ: فِي حُكْمِهِ وَأَرْكَانِهِ.
الْمَوْضِعُ الثَّانِي: فِي تَقَرُّرِ جَمِيعِهِ لِلزَّوْجَةِ.
الْمَوْضِعُ الثَّالِثُ: فِي تَشْطِيرِهِ.
الْمَوْضِعُ الرَّابِعُ: فِي التَّفْوِيضِ وَحُكْمِهِ.
الْمَوْضِعُ الْخَامِسُ: الْأَصْدِقَةُ الْفَاسِدَةُ وَحُكْمُهَا.
الْمَوْضِعُ السَّادِسُ: فِي اخْتِلَافِ الزَّوْجَيْنِ فِي الصَّدَاقِ.

.الْمَوْضِعُ الْأَوَّلُ فِي حِكَمِهِ وَأَرْكَانِهِ:

وَهَذَا فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ:
الْأُولَى: فِي حُكْمِهِ.
الثَّانِيَةُ: فِي قَدْرِهِ.
الثَّالِثَةُ: فِي جِنْسِهِ وَوَصْفِهِ.
الرَّابِعَةُ: فِي تَأْجِيلِهِ.

.[الْمَسْأَلَةُ الأُولَى]: [فِي حُكْمِهِ الصداق]:

أَمَّا حُكْمُهُ: فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ الصِّحَّةِ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّوَاطُؤُ عَلَى تَرْكِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}.

.[الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ]: [فِي قَدْرِهِ الصداق]:

وَأَمَّا قَدْرُهُ: فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِأَكْثَرِهِ حَدٌّ. وَاخْتَلَفُوا فِي أَقَلِّهِ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَفُقَهَاءُ الْمَدِينَةِ مِنَ التَّابِعِينَ: لَيْسَ لِأَقَلِّهِ حَدٌّ، وَكُلُّ مَا جَازَ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا وَقِيمَةً لِشَيْءٍ جَازَ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا، وَبِهِ قَالَ ابْنُ وَهْبٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ. وَقَالَ طَائِفَةٌ بِوُجُوبِ تَحْدِيدِ أَقَلِّهِ، وَهَؤُلَاءِ اخْتَلَفُوا، فَالْمَشْهُورُ فِي ذَلِكَ مَذْهَبَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ، وَالثَّانِي: مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ: فَأَمَّا مَالِكٌ، فَقَالَ: أَقَلُّهُ رُبُعُ دِينَارٍ مِنَ الذَّهَبِ أَوْ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ كَيْلًا مِنْ فِضَّةٍ، أَوْ مَا سَاوَى الدَّرَاهِمَ الثَّلَاثَةَ (أَعْنِي: دَرَاهِمَ الْكَيْلِ فَقَطْ فِي الْمَشْهُورِ)، وَقِيلَ: أَوْ مَا يُسَاوِي أَحَدَهُمَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: عَشَرَةُ دَرَاهِمَ أَقَلُّهُ، وَقِيلَ: خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، وَقِيلَ: أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي التَّقْدِيرِ سَبَبَانِ:
أَحَدُهُمَا: تَرَدُّدُهُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا مِنَ الْأَعْوَاضِ يُعْتَبَرُ فِيهِ التَّرَاضِي بِالْقَلِيلِ كَانَ أَوْ بِالْكَثِيرِ، كَالْحَالِ فِي الْبَيُوعَاتِ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ عِبَادَةً فَيَكُونَ مُؤَقَّتًا، وَذَلِكَ أَنَّهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ يَمْلِكُ بِهِ عَلَى الْمَرْأَةِ مَنَافِعَهَا عَلَى الدَّوَامِ يُشْبِهُ الْعِوَضَ، وَمِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّرَاضِي عَلَى إِسْقَاطِهِ يُشْبِهُ الْعِبَادَةَ. وَالسَّبَبُ الثَّانِي: مُعَارَضَةُ هَذَا الْقِيَاسِ فَالْمُقْتَضِي التَّحْدِيدَ لِمَفْهُومِ الْأَثَرِ الَّذِي لَا يَقْتَضِي التَّحْدِيدَ. أَمَّا الْقِيَاسُ الَّذِي يَقْتَضِي التَّحْدِيدَ: فَهُوَ كَمَا قُلْنَا إِنَّهُ عِبَادَةٌ وَالْعِبَادَاتُ مُؤَقَّتَةٌ.
وَأَمَّا الْأَثَرُ الَّذِي يَقْتَضِي مَفْهُومُهُ عَدَمَ التَّحْدِيدِ: فَحَدِيثُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ الْمُتَّفَقُ عَلَى صِحَّتِهِ، وَفِيهِ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي قَدْ وَهَبْتُ نَفْسِي لَكَ، فَقَامَتْ قِيَامًا طَوِيلًا، فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ زَوِّجْنِيهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ مَعَكَ مِنْ شَيْءٍ تُصْدِقُهَا إِيَّاهُ؟
فَقَالَ: مَا عِنْدِي إِلَّا إِزَارِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنْ أَعْطَيْتَهَا إِيَّاهُ جَلَسْتَ لَا إِزَارَ لَكَ، فَالْتَمِسْ شَيْئًا، فَقَالَ: لَا أَجِدُ شَيْئًا، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ، فَالْتَمَسَ فَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ مَعَكَ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ؟
قَالَ: نَعَمْ، سُورَةُ كَذَا، وَسُورَةُ كَذَا - لِسُوَرٍ سَمَّاهَا - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَدْ أَنْكَحْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ»
. قَالُوا: فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ» دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا قَدْرَ لِأَقَلِّهِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ قَدْرٌ لَبَيَّنَهُ، إِذْ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ، وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ بَيِّنٌ كَمَا تَرَى مَعَ أَنَّ الْقِيَاسَ الَّذِي اعْتَمَدَهُ الْقَائِلُونَ بِالتَّحْدِيدِ لَيْسَ تَسْلَمُ مُقَدِّمَاتُهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ انْبَنَى عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنَّ الصَّدَاقَ عِبَادَةٌ، وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ الْعِبَادَةَ مُؤَقَّتَةٌ. وَفِي كِلَيْهِمَا نِزَاعٌ لِلْخَصْمِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ يُلْفَى فِي الشَّرْعِ مِنَ الْعِبَادَاتِ مَا لَيْسَتْ مُؤَقَّتَةً، بَلِ الْوَاجِبُ فِيهَا هُوَ أَقَلُّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ شَبَهُ الْعِبَادَاتِ خَالِصًا، وَإِنَّمَا صَارَ الْمُرَجِّحُونَ لِهَذَا الْقِيَاسِ عَلَى مَفْهُومِ الْأَثَرِ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْأَثَرُ خَاصًّا بِذَاكَ الرَّجُلِ، لِقَوْلِهِ فِيهِ: «قَدْ أَنْكَحْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ» وَهَذَا خِلَافٌ لِلْأُصُولِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ أَنَّهُ قَالَ: «قُمْ فَعَلِّمْهَا» لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ مَعَهُ مِنَ الْقُرْآنِ، فَقَامَ فَعَلَّمَهَا، فَجَاءَ نِكَاحًا بِإِجَارَةٍ، لَكِنْ لَمَّا الْتَمَسُوا أَصْلًا يَقِيسُونَ عَلَيْهِ قَدْرَ الصَّدَاقِ لَمْ يَجِدُوا شَيْئًا أَقْرَبَ شَبَهًا بِهِ مِنْ نِصَابِ الْقَطْعِ عَلَى بُعْدِ مَا بَيْنَهُمَا. وَذَلِكَ أَنَّ الْقِيَاسَ الَّذِي اسْتَعْمَلُوهُ فِي ذَلِكَ هُوَ أَنَّهُمْ قَالُوا: عُضْوٌ مُسْتَبَاحٌ بِمَالٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُقَدَّرًا، أَصْلُهُ الْقَطْعُ، وَضَعْفُ هَذَا الْقِيَاسِ هُوَ مِنْ قِبَلِ الِاسْتِبَاحَةِ فِيهِمَا هِيَ مَقُولَةٌ بِاشْتِرَاكِ الِاسْمِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْقَطْعَ غَيْرُ الْوَطْءِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْقَطْعَ اسْتِبَاحَةٌ عَلَى جِهَةِ الْعُقُوبَةِ وَالْأَذَى وَنَقْصُ خِلْقَةٍ، وَهَذَا اسْتِبَاحَةٌ عَلَى جِهَةِ اللَّذَّةِ وَالْمَوَدَّةِ، وَمِنْ شَأْنِهِ قِيَاسُ الشَّبَهِ عَلَى ضَعْفِهِ أَنْ يَكُونَ الَّذِي بِهِ تَشَابَهَ الْفَرْعُ وَالْأَصْلُ شَيْئًا وَاحِدًا لَا بِاللَّفْظِ بَلْ بِالْمَعْنَى، وَأَنَّ يَكُونَ الْحُكْمُ إِنَّمَا وُجِدَ لِلْأَصْلِ مِنْ جِهَةِ الشَّبَهِ، وَهَذَا كُلُّهُ مَعْدُومٌ فِي هَذَا الْقِيَاسِ، وَمَعَ هَذَا فَإِنَّهُ مِنَ الشَّبَهِ الَّذِي لَمْ يُنَبِّهْ عَلَيْهِ اللَّفْظُ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْقِيَاسِ مَرْدُودٌ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ، لَكِنْ لَمْ يَسْتَعْمِلُوا هَذَا الْقِيَاسَ فِي إِثْبَاتِ التَّحْدِيدِ الْمُقَابِلِ لِمَفْهُومِ الْحَدِيثِ، إِذْ هُوَ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ، وَإِنَّمَا اسْتَعْمَلُوهُ فِي تَعْيِينِ قِدْرِ التَّحْدِيدِ.
وَأَمَّا الْقِيَاسُ الَّذِي اسْتَعْمَلُوهُ فِي مُعَارَضَةِ مَفْهُومِ الْحَدِيثِ فَهُوَ أَقْوَى مِنْ هَذَا، وَيَشْهَدُ لِعَدَمِ التَّحْدِيدِ مَا خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ: «أَنَّ امْرَأَةً تَزَوَّجَتْ عَلَى نَعْلَيْنِ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرَضِيتِ مِنْ نَفْسِكِ وَمَالِكِ بِنَعْلَيْنِ؟
فَقَالَتْ: نَعَمْ، فَجَوَّزَ نِكَاحَهَا»
وَقَالَ: هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَلَمَّا اتَّفَقَ الْقَائِلُونَ بِالتَّحْدِيدِ عَلَى قِيَاسِهِ عَلَى نِصَابِ السَّرِقَةِ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ بِحَسَبِ اخْتِلَافِهِمْ فِي نِصَابِ السَّرِقَةِ، فَقَالَ مَالِكٌ: هُوَ رُبُعُ دِينَارٍ أَوْ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ، لِأَنَّهُ النِّصَابُ فِي السَّرِقَةِ عِنْدَهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، لِأَنَّهُ النِّصَابُ فِي السَّرِقَةِ عِنْدَهُ. وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ: هُوَ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، لِأَنَّهُ النِّصَابُ عِنْدَهُ أَيْضًا فِي السَّرِقَةِ. وَقَدِ احْتَجَّتِ الْحَنَفِيَّةُ لِكَوْنِ الصَّدَاقِ مُحَدَّدًا بِهَذَا الْقَدْرِ بِحَدِيثٍ يَرْوُونَهُ عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «لَا مَهْرَ بِأَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ». وَلَوْ كَانَ هَذَا ثَابِتًا لَكَانَ رَافِعًا لِمَوْضِعِ الْخِلَافِ، لِأَنَّهُ كَانَ يَجِبُ لِمَوْضِعِ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ يُحْمَلَ حَدِيثُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ عَلَى الْخُصُوصِ، لَكِنَّ حَدِيثَ جَابِرٍ هَذَا ضَعِيفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ، فَإِنَّهُ يَرْوِيهِ - قَالُوا - مُبَشِّرُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَأَةَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ، وَمُبَشِّرٌ وَالْحَجَّاجُ ضَعِيفَانِ، وَعَطَاءٌ أَيْضًا لَمْ يَلْقَ جَابِرًا، وَلِذَلِكَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مُعَارِضٌ لِحَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ.

.[الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ]: [فِي جِنْسِهِ وَوَصْفِهِ]:

أَمَّا جِنْسُهُ الصداق: فَكُلُّ مَا جَازَ أَنْ يُتَمَلَّكَ وَأَنْ يَكُونَ عِوَضًا.
وَاخْتَلَفُوا مِنْ ذَلِكَ فِي مَكَانَيْنِ: فِي النِّكَاحِ بِالْإِجَارَةِ، وَفِي جَعْلِ عِتْقِ أَمَتِهِ صَدَاقَهَا. أَمَّا النِّكَاحُ عَلَى الْإِجَارَةِ: فَفِي الْمَذْهَبِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: قَوْلٌ بِالْإِجَازَةِ، وَقَوْلٌ بِالْمَنْعِ، وَقَوْلٌ بِالْكَرَاهَةِ. وَالْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ الْكَرَاهَةُ، وَلِذَلِكَ رَأَى فَسْخَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَأَجَازَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ: أَصْبُغُ، وَسَحْنُونٌ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَمَنَعَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ إِلَّا فِي الْعَبْدِ، فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ أَجَازَهُ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ سَبَبَانِ:
أَحَدُهُمَا: هَلْ شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا لَازِمٌ لَنَا حَتَّى يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى ارْتِفَاعِهِ، أَمِ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ؟
فَمَنْ قَالَ: هُوَ لَازِمٌ أَجَازَهُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} الْآيَةَ. وَمَنْ قَالَ: لَيْسَ بِلَازِمٍ قَالَ: لَا يَجُوزُ النِّكَاحُ بِالْإِجَارَةِ. وَالسَّبَبُ الثَّانِي: هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُقَاسَ النِّكَاحُ فِي ذَلِكَ عَلَى الْإِجَارَةِ؟
وَذَلِكَ أَنَّ الْإِجَارَةَ هِيَ مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ بُيُوعِ الْغَرَرِ الْمَجْهُولِ، وَلِذَلِكَ خَالَفَ فِيهَا الْأَصَمُّ وَابْنُ عُلَيَّةَ، وَذَلِكَ أَنَّ أَصْلَ التَّعَامُلِ إِنَّمَا هُوَ عَلَى عَيْنٍ مَعْرُوفَةٍ ثَابِتَةٍ فِي عَيْنٍ مَعْرُوفَةٍ ثَابِتَةٍ، وَالْإِجَارَةُ هِيَ عَيْنٌ ثَابِتَةٌ فِي مُقَابَلَتِهَا حَرَكَاتٌ وَأَفْعَالٌ غَيْرُ ثَابِتَةٍ وَلَا مُقَدَّرَةٍ بِنَفْسِهَا. وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ مَتَى تَجِبُ الْأُجْرَةُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ.
وَأَمَّا كَوْنُ الْعِتْقِ صَدَاقًا: فَإِنَّهُ مَنَعَهُ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ مَا عَدَا دَاوُدَ، وَأَحْمَدَ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: مُعَارَضَةُ الْأَثَرِ الْوَارِدِ فِي ذَلِكَ لِلْأُصُولِ (أَعْنِي: مَا ثَبَتَ مِنْ: «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَعْتَقَ صَفِيَّةَ وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا») مَعَ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ هَذَا خَاصًّا بِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِكَثْرَةِ اخْتِصَاصِهِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَوَجْهُ مُفَارَقَتِهِ لِلْأُصُولِ أَنَّ الْعِتْقَ إِزَالَةُ مِلْكٍ، وَالْإِزَالَةُ لَا تَتَضَمَّنُ اسْتِبَاحَةَ الشَّيْءِ بِوَجْهٍ آخَرَ، لِأَنَّهَا إِذَا أُعْتِقَتْ مَلَكَتْ نَفْسَهَا فَكَيْفَ يُلْزِمُهَا النِّكَاحَ؟
وَلِذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنَّهَا إِنْ كَرِهَتْ زَوَاجَهُ غَرِمَتْ لَهُ قِيمَتَهَا، لِأَنَّهُ رَأَى أَنَّهَا قَدْ أُتْلِفَتْ عَلَيْهِ قِيمَتُهَا إِذْ كَانَ إِنَّمَا أَتْلَفَهَا بِشَرْطِ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا، وَهَذَا كُلُّهُ لَا يُعَارَضُ بِهِ فِعْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَلَوْ كَانَ غَيْرَ جَائِزٍ لِغَيْرِهِ لَبَيَّنَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَالْأَصْلُ أَنَّ أَفْعَالَهُ لَازِمَةٌ لَنَا، إِلَّا مَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى خُصُوصِيَّتِهِ.
وَأَمَّا صِفَةُ الصَّدَاقِ: فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى انْعِقَادِ النِّكَاحِ عَلَى الْعِوَضِ الْمُعَيَّنِ الْمَوْصُوفِ (أَعْنِي: الْمُنْضَبِطَ جِنْسُهُ وَقَدْرُهُ بِالْوَصْفِ). وَاخْتَلَفُوا فِي الْعِوَضِ الْغَيْرِ مَوْصُوفٍ وَلَا مُعَيَّنٍ في الصداق، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: أَنْكَحْتُكَهَا عَلَى عَبْدٍ أَوْ خَادِمٍ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَصِفَ ذَلِكَ وَصْفًا يَضْبُطُ قِيمَتَهُ، فَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ. وَإِذَا وَقَعَ النِّكَاحُ عَلَى هَذَا الْوَصْفِ عِنْدَ مَالِكٍ كَانَ لَهَا الْوَسَطُ مِمَّا سَمَّى. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُجْبَرُ عَلَى الْقِيمَةِ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هَلْ يَجْرِي النِّكَاحُ فِي ذَلِكَ مَجْرَى الْبَيْعِ مِنَ الْقَصْدِ فِي التَّشَاحِّ، أَوْ لَيْسَ يَبْلُغُ ذَلِكَ الْمَبْلَغَ بَلِ الْقَصْدُ مِنْهُ أَكْثَرُ ذَلِكَ الْمُكَارَمَةُ؟
فَمَنْ قَالَ يَجْرِي فِي التَّشَاحِّ مَجْرَى الْبَيْعِ قَالَ: كَمَا لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ عَلَى شَيْءٍ غَيْرِ مَوْصُوفٍ، كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ النِّكَاحُ. وَمَنْ قَالَ لَيْسَ يَجْرِي مَجْرَاهُ إِذِ الْمَقْصُودُ مِنْهُ إِنَّمَا هُوَ الْمُكَارَمَةُ قَالَ: يَجُوزُ.

.[الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ]: [فِي تَأْجِيلِهِ]:

وَأَمَّا التَّأْجِيلُ في الصداق: فَإِنَّ قَوْمًا لَمْ يُجِيزُوهُ أَصْلًا، وَقَوْمٌ أَجَازُوهُ وَاسْتَحَبُّوا أَنْ يُقَدِّمَ شَيْئًا مِنْهُ إِذَا أَرَادَ الدُّخُولَ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ. وَالَّذِينَ أَجَازُوا التَّأْجِيلَ: مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُجِزْهُ إِلَّا لِزَمَنٍ مَحْدُودٍ، وَقَدَّرَ هَذَا الْبُعْدَ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَهُ لِمَوْتٍ أَوْ فِرَاقٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَوْزَاعِيِّ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ هَلْ يُشْبِهُ النِّكَاحُ الْبَيْعَ فِي التَّأْجِيلِ أَوْ لَا يُشْبِهُهُ؟
فَمَنْ قَالَ: يُشْبِهُهُ لَمْ يُجِزِ التَّأْجِيلَ لِمَوْتٍ أَوْ فِرَاقٍ. وَمَنْ قَالَ: لَا يُشْبِهُهُ أَجَازَ ذَلِكَ. وَمَنْ مَنَعَ التَّأْجِيلَ فَلِكَوْنِهِ عِبَادَةً.

.الْمَوْضِعُ الثَّانِي فِي النَّظَرِ فِي التَّقَرُّرِ:

وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الصَّدَاقَ يَجِبُ كُلُّهُ بِالدُّخُولِ أَوِ الْمَوْتِ: أَمَّا وُجُوبُهُ كُلُّهُ بِالدُّخُولِ: فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} الْآيَةَ.
وَأَمَّا وُجُوبُهُ بِالْمَوْتِ: فَلَا أَعْلَمُ الْآنَ فِيهِ دَلِيلًا مَسْمُوعًا إِلَّا انْعِقَادَ الْإِجْمَاعِ عَلَى ذَلِكَ. وَاخْتَلَفُوا هَلْ مِنْ شَرْطِ وُجُوبِهِ مَعَ الدُّخُولِ الْمَسِيسُ، أَمْ لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ شَرْطِهِ، بَلْ يَجِبُ بِالدُّخُولِ وَالْخَلْوَةِ، وَهُوَ الَّذِي يَعْنُونَ بِإِرْخَاءِ السُّتُورِ؟
فَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَدَاوُدُ: لَا يَجِبُ بِإِرْخَاءِ السُّتُورِ إِلَّا نِصْفُ الْمَهْرِ مَا لَمْ يَكُنِ الْمَسِيسُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجِبُ الْمَهْرُ بِالْخَلْوَةِ نَفْسِهَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُحْرِمًا أَوْ مَرِيضًا أَوْ صَائِمًا فِي رَمَضَانَ أَوْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ حَائِضًا. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: يَجِبُ الْمَهْرُ كُلُّهُ بِالدُّخُولِ وَلَمْ يَشْتَرِطْ فِي ذَلِكَ شَيْئًا.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي ذَلِكَ: مُعَارَضَةُ حُكْمِ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ لِظَاهِرِ الْكِتَابِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ نَصَّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي الْمَدْخُولِ بِهَا الْمَنْكُوحَةِ أَنَّهُ لَيْسَ يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ صَدَاقِهَا شَيْءٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ}. وَنَصَّ فِي الْمُطَلَّقَةِ قَبْلَ الْمَسِيسِ حكم الصداق لها أَنَّ لَهَا نِصْفَ الصَّدَاقِ، فَقَالَ تَعَالَى: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ وَهَذَا نَصٌّ كَمَا تَرَى فِي حُكْمِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ (أَعْنِي: قَبْلَ الْمَسِيسِ، وَبَعْدَ الْمَسِيسِ) وَلَا وَسَطَ بَيْنَهُمَا، فَوَجَبَ بِهَذَا إِيجَابًا ظَاهِرًا أَنَّ الصَّدَاقَ لَا يَجِبُ إِلَّا بِالْمَسِيسِ، وَالْمَسِيسُ هَاهُنَا الظَّاهِرُ مِنْ أَمْرِهِ أَنَّهُ الْجِمَاعُ، وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَصْلِهِ فِي اللُّغَةِ وَهُوَ الْمَسُّ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الَّذِي تَأَوَّلَتِ الصَّحَابَةُ، وَلِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ فِي الْعِنِّينِ الْمُؤَجَّلِ: إِنَّهُ قَدْ وَجَبَ لَهَا الصَّدَاقُ عَلَيْهِ إِذَا وَقَعَ الطَّلَاقُ لِطُولِ مُقَامِهِ مَعَهَا، فَجَعَلَ لَهُ دُونَ الْجِمَاعِ تَأْثِيرًا فِي إِيجَابِ الصَّدَاقِ.
وَأَمَّا الْأَحْكَامُ الْوَارِدَةُ فِي ذَلِكَ عَنِ الصَّحَابَةِ فَهُوَ: أَنَّ مَنْ أَغْلَقَ بَابًا أَوْ أَرْخَى سَتْرًا فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الصَّدَاقُ لَمْ يُخْتَلَفْ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ فِيمَا حَكَمُوا. وَاخْتَلَفُوا مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي فَرْعٍ، وَهُوَ إِذَا اخْتَلَفَا فِي الْمَسِيسِ (أَعْنِي: الْقَائِلِينَ بِاشْتِرَاطِ الْمَسِيسِ)، وَذَلِكَ مِثْلَ أَنْ تَدَّعِيَ هِيَ الْمَسِيسَ وَيُنْكِرَ هُوَ حكم الصداق لها، فَالْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهَا. وَقِيلَ: إِنْ كَانَ دُخُولَ بِنَاءٍ صُدِّقَتْ، وَإِنْ كَانَ دُخُولَ زِيَارَةٍ لَمْ تُصَدَّقْ. وَقِيلَ: إِنْ كَانَتْ بِكْرًا نَظَرَ إِلَيْهَا النِّسَاءُ. فَيَتَحَصَّلُ فِيهَا فِي الْمَذْهَبِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَهْلُ الظَّاهِرِ: الْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مُدَّعًى عَلَيْهِ. وَمَالِكٌ لَيْسَ يَعْتَبِرُ فِي وُجُوبِ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ مَا هُوَ مُدَّعًى عَلَيْهِ، بَلْ مِنْ جِهَةِ مَا هُوَ أَقْوَى شُبْهَةً فِي الْأَكْثَرِ، وَلِذَلِكَ يَجْعَلُ الْقَوْلَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ قَوْلَ الْمُدَّعِي إِذَا كَانَ أَقْوَى شُبْهَةً. وَهَذَا الْخِلَافُ يَرْجِعُ إِلَى هَلْ إِيجَابُ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُعَلَّلٌ أَوْ غَيْرُ مُعَلَّلٍ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي وُجُوبِ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْمُدَّعِي، وَسَيَأْتِي هَذَا فِي مَكَانِهِ.

.الْمَوْضِعُ الثَّالِثُ فِي التَّشْطِيرِ:

وَاتَّفَقُوا اتِّفَاقًا مُجْمَلًا أَنَّهُ إِذَا طَلَّقَ قَبْلَ الدُّخُولِ وَقَدْ فَرَضَ صَدَاقًا أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ الصَّدَاقِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ) الْآيَةَ. وَالنَّظَرُ فِي التَّشْطِيرِ فِي أُصُولٍ ثَلَاثَةٍ: فِي مَحَلِّهِ مِنَ الْأَنْكِحَةِ، وَفِي مُوجِبِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الطَّلَاقِ (أَعْنِي: الْوَاقِعَ قَبْلَ الدُّخُولِ)، وَفِي حُكْمِ مَا يَعْرِضُ لَهُ مِنَ التَّغْيِيرَاتِ قَبْلَ الطَّلَاقِ. أَمَّا مَحَلُّهُ مِنَ النِّكَاحِ عِنْدَ مَالِكٍ: فَهُوَ النِّكَاحُ الصَّحِيحُ (أَعْنِي: أَنْ يَكُونَ يَقَعُ الطَّلَاقُ الَّذِي قَبْلَ الدُّخُولِ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ).
وَأَمَّا النِّكَاحُ الْفَاسِدُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنِ الْفُرْقَةُ فِيهِ فَسْخًا وَطَلَّقَ قَبْلَ الْفَسْخِ فَفِي ذَلِكَ قَوْلَانِ.
وَأَمَّا مُوجِبِ التَّشْطِيرِ: فَهُوَ الطَّلَاقُ الَّذِي يَكُونُ بِاخْتِيَارٍ مِنَ الزَّوْجِ لَا بِاخْتِيَارٍ مِنْهَا، مِثْلُ الطَّلَاقِ الَّذِي يَكُونُ مِنْ قِبَلِ قِيَامِهَا بِعَيْبٍ يُوجَدُ فِيهِ. وَاخْتَلَفُوا مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي الَّذِي يَكُونُ سَبَبَهُ قِيَامُهَا عَلَيْهِ بِالصَّدَاقِ أَوِ النَّفَقَةِ مَعَ عُسْرِهِ، وَلَا فَرَقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِيَامِ بِالْعَيْبِ.
وَأَمَّا الْفُسُوخُ الَّتِي لَيْسَتْ طَلَاقًا: فَلَا خِلَافَ أَنَّهَا لَيْسَتْ تُوجِبُ التَّشْطِيرَ إِذَا كَانَ فِيهَا الْفَسْخُ مِنْ قِبَلِ الْعَقْدِ أَوْ مِنْ قِبَلِ الصَّدَاقِ، وَبِالْجُمْلَةِ مِنْ قِبَلِ عَدَمِ مُوجِبَاتِ الصِّحَّةِ، وَلَيْسَ لَهَا فِي ذَلِكَ اخْتِيَارٌ أَصْلًا.
وَأَمَّا الْفُسُوخُ الطَّارِئَةُ عَلَى الْعَقْدِ الصَّحِيحِ مِثْلُ الرِّدَّةِ وَالرَّضَاعِ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا فِيهِ اخْتِيَارٌ، أَوْ كَانَ لَهَا دُونَهُ لَمْ يُوجِبِ التَّشْطِيرَ. وَإِنْ كَانَ لَهُ فِيهِ اخْتِيَارٌ مِثْلُ الرِّدَّةِ أَوْجَبَ التَّشْطِيرَ. وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ مَذْهَبُ أَهْلِ الظَّاهِرِ أَنَّ كُلَّ طَلَاقٍ قَبْلَ الْبِنَاءِ فَوَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ فِيهِ التَّنْصِيفُ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ سَبَبِهَا أَوْ سَبَبِهِ، وَأَنَّ مَا كَانَ فَسْخًا وَلَمْ يَكُنْ طَلَاقًا فَلَا تَنْصِيفَ فِيهِ.
وَسَبَبُ الْخِلَافِ: هَلْ هَذِهِ السُّنَّةُ مَعْقُولَةُ الْمَعْنَى أَمْ لَيْسَتْ بِمَعْقُولَةٍ. فَمَنْ قَالَ إِنَّهَا مَعْقُولَةُ الْمَعْنَى، وَأَنَّهُ إِنَّمَا وَجَبَ لَهَا نِصْفُ الصَّدَاقِ عِوَضَ مَا كَانَ لَهَا لِمَكَانِ الْجَبْرِ عَلَى رَدِّ سِلْعَتِهَا، وَأَخْذِ الثَّمَنِ، كَالْحَالِ فِي الْمُشْتَرَى، فَلَمَّا فَارَقَ النِّكَاحُ فِي هَذَا الْمَعْنَى الْبَيْعَ جَعَلَ لَهَا هَذَا عِوَضًا مِنْ ذَلِكَ الْحَقِّ قَالَ: إِذَا كَانَ الطَّلَاقُ مِنْ سَبَبِهَا لَمْ يَكُنْ لَهَا شَيْءٌ، لِأَنَّهَا أَسْقَطَتْ مَا كَانَ لَهَا مِنْ جَبْرِهِ عَلَى دَفْعِ الثَّمَنِ وَقَبْضِ السِّلْعَةِ. وَمَنْ قَالَ: إِنَّهَا سُنَّةٌ غَيْرُ مَعْقُولَةٍ وَاتَّبَعَ ظَاهِرَ اللَّفْظِ قَالَ: يَلْزَمُ التَّشْطِيرُ فِي كُلِّ طَلَاقٍ كَانَ مِنْ سَبَبِهِ أَوْ سَبَبِهَا. فَأَمَّا حُكْمُ مَا يَعْرِضُ لِلصَّدَاقِ مِنَ التَّغَيُّرَاتِ قَبْلَ الطَّلَاقِ: فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مِنْ قِبَلِهَا أَوْ مِنَ اللَّهِ: فَمَا كَانَ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ تَلَفًا لِلْكُلِّ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ نَقْصًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ زِيَادَةً، وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ زِيَادَةً وَنَقْصًا مَعًا. وَمَا كَانَ مِنْ قِبَلِهَا: فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ تَصَرُّفُهَا فِيهِ بِتَفْوِيتِ مِثْلِ الْبَيْعِ وَالْعِتْقِ وَالْهِبَةِ، أَوْ يَكُونَ تَصَرُّفُهَا فِيهِ فِي مَنَافِعِهَا الْخَاصَّةِ بِهَا أَوْ فِيمَا تَتَجَهَّزُ بِهِ إِلَى زَوْجِهَا. فَعِنْدَ مَالِكٍ أَنَّهُمَا فِي التَّلَفِ وَفِي الزِّيَادَةِ وَفِي النُّقْصَانِ شَرِيكَانِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَرْجِعُ فِي النُّقْصَانِ وَالتَّلَفِ عَلَيْهَا بِالنِّصْفِ وَلَا يَرْجِعُ بِنِصْفِ الزِّيَادَةِ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هَلْ تَمْلِكُ الْمَرْأَةُ الصَّدَاقَ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوِ الْمَوْتِ مِلْكًا مُسْتَقِرًّا أَوْ لَا تَمْلِكُهُ؟
فَمَنْ قَالَ: إِنَّهَا لَا تَمْلِكُهُ مِلْكًا مُسْتَقِرًّا قَالَ: هُمَا فِيهِ شَرِيكَانِ مَا لَمْ تَتَعَدَّ فَتُدْخِلَهُ فِي مَنَافِعِهَا. وَمَنْ قَالَ تَمْلِكُهُ مِلْكًا مُسْتَقِرًّا وَالتَّشْطِيرُ حَقٌّ وَاجِبٌ تَعَيَّنَ عَلَيْهَا عِنْدَ الطَّلَاقِ وَبَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْمِلْكِ، أَوْجَبَ الرُّجُوعَ عَلَيْهَا بِجَمِيعِ مَا ذَهَبَ عِنْدَهَا، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّهَا إِذَا صَرَفَتْهُ فِي مَنَافِعِهَا ضَامِنَةٌ لِلنِّصْفِ. وَاخْتَلَفُوا إِذَا اشْتَرَتْ بِهِ مَا يُصْلِحُهَا لِلْجِهَازِ مِمَّا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ هَلْ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ مَا اشْتَرَتْهُ أَمْ بِنِصْفِ الصَّدَاقِ الَّذِي هُوَ الثَّمَنُ؟
فَقَالَ مَالِكٌ: يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ مَا اشْتَرَتْهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ: يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ الثَّمَنِ الَّذِي هُوَ الصَّدَاقُ. وَاخْتَلَفُوا مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي فَرْعٍ مَشْهُورٍ مُتَعَلِّقٍ بِالسَّمَاعِ وَهُوَ: هَلْ لِلْأَبِ أَنْ يَعْفُوَ عَنْ نِصْفِ الصَّدَاقِ فِي ابْنَتِهِ الْبِكْرِ؟
(أَعْنِي: إِذَا طُلِّقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ) وَلِلسَّيِّدِ فِي أَمَتِهِ؟
فَقَالَ مَالِكٌ: ذَلِكَ لَهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: لَيْسَ ذَلِكَ لَهُ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هُوَ الِاحْتِمَالُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} وَذَلِكَ فِي لَفْظَةِ {يَعْفُو} فَإِنَّهَا تُقَالُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَرَّةً بِمَعْنَى يُسْقِطُ، وَمَرَّةً بِمَعْنَى يَهَبُ. وَفِي قَوْلِهِ: {الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} عَلَى مَنْ يَعُودُ هَذَا الضَّمِيرُ؟
هَلْ عَلَى الْوَلِيِّ أَوْ عَلَى الزَّوْجِ؟
فَمَنْ قَالَ: عَلَى الزَّوْجِ جَعَل: {يَعْفُوَ} بِمَعْنَى يَهَبُ. وَمَنْ قَالَ: عَلَى الْوَلِيِّ جَعَل: {يَعْفُوَ} بِمَعْنَى يُسْقِطُ. وَشَذَّ قَوْمٌ فَقَالُوا: لِكُلِّ وَلِيٍّ أَنْ يَعْفُوَ عَنْ نِصْفِ الصَّدَاقِ الْوَاجِبِ لِلْمَرْأَةِ. وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَانِ الِاحْتِمَالَانِ اللَّذَانِ فِي الْآيَةِ عَلَى السَّوَاءِ، لَكِنَّ مَنْ جَعَلَهُ الزَّوْجَ فَلَمْ يُوجِبْ حُكْمًا زَائِدًا فِي الْآيَةِ (أَيْ: شَرْعًا زَائِدًا)، لِأَنَّ جَوَازَ ذَلِكَ مَعْلُومٌ مِنْ ضَرُورَةِ الشَّرْعِ. وَمَنْ جَعَلَهُ الْوَلِيَّ: إِمَّا الْأَبُ وَإِمَّا غَيْرُهُ فَقَدْ زَادَ شَرْعًا، فَلِذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِدَلِيلٍ يُبَيِّنُ بِهِ أَنَّ الْآيَةَ أَظْهَرُ فِي الْوَلِيِّ مِنْهَا فِي الزَّوْجِ، وَذَلِكَ شَيْءٌ يَعْسُرُ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ الصَّغِيرَةَ وَالْمَحْجُورَةَ لَيْسَ لَهَا أَنْ تَهَبَ مِنْ صَدَاقِهَا النِّصْفَ الْوَاجِبَ لَهَا. وَشَذَّ قَوْمٌ فَقَالُوا: يَجُوزُ أَنْ تَهَبَ، مَصِيرًا لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ}. وَاخْتَلَفُوا مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي الْمَرْأَةِ إِذَا وَهَبَتْ صَدَاقَهَا لِزَوْجِهَا ثُمَّ طُلِّقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ: فَقَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ الصَّدَاقِ.
وَسَبَبُ الْخِلَافِ: هَلِ النِّصْفُ الْوَاجِبُ لِلزَّوْجِ بِالطَّلَاقِ هُوَ فِي عَيْنِ الصَّدَاقِ، أَوْ فِي ذِمَّةِ الْمَرْأَةِ؟
فَمَنْ قَالَ: فِي عَيْنِ الصَّدَاقِ قَالَ: لَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ، لِأَنَّهُ قَبَضَ الصَّدَاقَ كُلَّهُ. وَمَنْ قَالَ: هُوَ فِي ذِمَّةِ الْمَرْأَةِ قَالَ: يَرْجِعُ وَإِنْ وَهَبَتْهُ لَهُ، كَمَا لَوْ وَهَبَتْ لَهُ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ مَالِهَا. وَفَرَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَيْنَ الْقَبْضِ وَلَا قَبْضٍ، فَقَالَ: إِنْ قَبَضَتْ فَلَهُ النِّصْفُ وَإِنْ لَمْ تَقْبِضْ حَتَّى وَهَبَتْ فَلَيْسَ لَهُ شَيْءٌ، كَأَنَّهُ رَأَى أَنَّ الْحَقَّ فِي الْعَيْنِ مَا لَمْ تَقْبِضْ، فَإِذَا قَبَضَتْ صَارَ فِي الذِّمَّةِ.